الأعداد السابقة
المجلد :11 العدد : 30 1996
أضف إلى عربة التسوق
تنزيل
ارتفاق الكون في التحضير الإسلامي
المؤلف : د . عبد المجيد النجار
ارتفاق الكون في التحضير الإسلامي
د . عبد المجيد النجار
من المباديء الأساسية التي يقوم عليها الإسلامي : مبدأ ارتفاق الكون ويعني هذا المبدأ التعامل مع البيئة الطبيعية في سبيل البناء الحضاري تعاملاً يقوم على استثمار المقدرات الكونية والانتفاع بها من جهة ، وعلى معاملتها برفق من جهة أخرى .
وينبني مبدأ الارتفاق على أساس عقدي ، يتمثل فيما جاء في التعاليم الإسلامية من أمر وجوبي بالسعي في مناكب الكون ، والانتفاع بما قدر الله فيه من المنافع في سبيل التعمير في الأرض الذي هو جزء من الخلافة فيها ، وهي المهمة التي كلف بها الإنسان في حياته الدنيا ، كما يتمثل فيما جاء في تلك التعاليم من تربية له ، تقوم على أن يرتبط بالكون برباط الوئام والمحبة ، وينزع من نفسه كل مشاعر الكراهية والعداء نحوه .
وعلى هذا الأساس العقدي الذي يمثل المرجعية الثقافية للمسلم في تصرفه الكوني ، ينطلق في ذلك التصرف : انتفاعاً بمرافق الكون ، في رفق به وحفاظ عليه .
أما الانتفاع : هو انتفاع معرفي باستيعاب حقائق القوانين الكونية ، ثم استيعاب دلالاتها العقدية ، وانتفاع جمالي ، بتزكية الروح بما ينفسح في الطبيعة من مظاهر الجمال ، وانتفاع مادي باستثمار مرافق الكون ، والعود بها على ما ينمي الحياة ، ويحقق الرفاه في مختلف شعابها .
وأما الرفق : فهو معاملة البيئة الكونية معاملة رفق ولطف ، وذلك بصيانتها من الإتلاف لمادتها وهيئاتها ، وصيانتها من التلوث بمختلف أنواع الملوثات التي من شأنها أن تفسد أعيانها أو تراتيبها وأنظمتها ، وكذلك معاملتها بالرفق في استهلاك مقدراتها أن تبدد سدى في صرف عبثي يخل بتوازن أنظمتها ، كما يخل بمستقبل الأجيال البشرية .
إن هذا الفقه في التعامل مع البيئة الكونية هو الفقه الإسلامي في التحضر ، وهو من شأنه
– منطقيا – أن يفضي إلى حركة تعمير في الأرض ، تتصف بالثراء من جهة ، كما تتصف بالحفاظ على البيئة الكونية – أن يطالها الفساد والخراب – من جهة أخرى ، وهو على صعيد الواقع التاريخي أفضى بالفعل إلى حضارة إسلامية ثرية في تعميرها نظيفة في مسلكها إزاء الطبيعة .
وبهذا الفقه في التحضير يتفادى التحضر الإسلامي مزالق خطيرة وقعت فيها حضارات أخرى ، جنح بعضها إلى الزهد في مرافق الكون أن تستثمر للانتفاع بها ، بناء على تصور للمادة تتصف فيه بالدونية والخسة ، فآلت إلى التلاشي ، وجنح بعضها إلى معاملة الطبيعة بالغلظة والعنف ، بناء على تصور يتقوم باستشعار العداء إزاءها ، والرغبة الجامحة في استهلاكها بغير حدود ، فآلت إلى تلويث للبيئة يوشك بها على الدمار ، وذلك شأن الحضارة القائمة اليوم ، ولا يقوم للمسلمين نهوض حضاري إسلامي حقيقي إلا بجعل هذا الفقه الارتفاقي في التحضير أساساً أصيلا لمنزعهم في الاستئناف الحضاري ، وحينئذ فإنهم يمكن أن يقدموا للبشرية أنموذجاً حضارياً رفيعاً ، يتلافى ما وقعت فيه الحضارات من مزالق ، نرى اليوم بعضها ينذر بالهلاك الشامل ، ولا غرو ، فقد قدموا بالأمس وفق هذا الفقه أنموذجاً رائعاً للتحضر .