تحقيق صدق النية عند الغزالي
د. عبد الحليم أحمدي
1 - إن كلمة النية تأتي بمعنيين قد يخلط بينهما ، وهما :
معنى : القصد الذي يكون مصاحباً ومقارناً بالعمل .
ومعنى: الباعث الذي يدفع الإنسان إلى العمل ، وهو نفسه الغاية والهدف الذي يضعه الإنسان نصب عينيه .
2 - إن الفرق بين المعنيين : أن الأول ( القصد ) ليس معياراً مستقلاً للخير والثواب والعقاب ، بينما يعتبر الثاني معياراً مستقلاً عن العمل الذي قد يكون خيراً وباعثه شراً ، ويكون شراً وباعثه خيراً .
3 - ويفتح لنا هذا التمييز بين معنيي النية ، وأخذ كل منهما بعين الاعتبار أفقاً جديدة في فهم بعض النصوص من القرآن والسنة .
4 - كما أن هذا التمييز وأخذه بعين الاعتبار يلقي الضوء على طبيعة وحقيقة الخلافات التي دارت بين العلماء حول هذه النصوص .
5 - وأن هذا المعنى الأخير ( معنى الباعث والدافع ) هو الذي طالب الشرع بتخليصه من الشوائب الدنيوية ، وجعله خالصاً لوجه الله تعالى وطلب الآخرة .
6 - إن تحقيق صدق النية كاملاً ليس بالأمر الهين
– كما يبدو لأول وهلة – وإنما هو أمر في غاية الصعوبة ، وقد لا يقدر على تحقيقه كاملاً إلا آحاد من الناس ، وكثيراً ما يتصور الأذكياء من البشر ومن أكثرهم عبادة أن دوافعه لله والآخرة ، فإذا به يكتشف في لحظة من اللحظات : أن تلك البواعث كانت للهوى ، أو الدنيا ، أو الشيطان .
7 - وعلى الرغم من ذلك : فإن تحقيق حد أدنى منه ضروري ، للحيلولة دون تحول الحياة إلى ميدان للسباق الرهيب بين البشر على المتطلبات المادية ، لا تراعى فيه آية قيم ومبادىء ، ما عدا القوة .
8 - وقد خاض الغزالي خضم النفس الإنسانية المعقدة ، وسبر أغوارها ، في محاولة جريئة ومخلصة لمساعدة الإنسان في معرفة حقيقة : نواياه ، وبواعثه ، ودوافعه ، وغاياته ، التي كثيراً ما يراها كما تبدو له ، لا كما هي في ذاتها وحقيقتها ، ونبة إلى الأخطاء والمداخل التي يقع من خلالها التلبيس والزيف في هذا المجال .
9 - إن هذه المحاولات على صعوبتها ، رحلة مع النفس في نشاطها وبواعثها وغاياتها ودوافعها ، كما أنها يمكن أن تكون نواة لعلم نفس إسلامي ، وعلى الرغم من ذلك فإنها قد تحتاج إلى إعادة النظر فيها ، وتطعيمها بما كشفه ويكشفه لنا العلم في المستقبل كل يوم من جديد النفس البشرية ، ولا سيما نظرية اللاشعور التي اكتشفت في العصر الحديث .
10 - وعلى كل حال فإن محاولة تحقيق صدق النية تعني معرفة الإنسان لنفسه ، عن طريق معرفة بواعثه ، فإذا ما استطاع غرس وتنمية البواعث الخيرة والإقلال من الشريرة منها فعلاً قل في المجتمع الخلاف والتفرق ، وزادت احتمالات الوحدة والمحبة .
11 - إن وضع صدق النية نصب العينين كهدف أعلى يحول حياة الإنسان إلى عبادة ، وينزع فتيل الحسد والكراهية من أنشطتنا في الحياة ، مع إبقاء المنافسة اللازمة لدفع عجلة الحياة ، وبناء أساس متين من التقوى والقيم الخلقية ، والأهداف النبيلة لأنشطتنا وتحركنا في الحياة ، وهو الأمر الذي يؤدي
– بدوره - إلى السلام والطمأنينة للأفراد والمجتمع معاً .